فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة قريش:
استجاب الله دعوة خليله إبراهيم، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره: {رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات}.. فجعل هذا البيت آمنا، وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين؛ وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان.. حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام.. لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام.
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان، مما فصلته سورة الفيل. وحفظ الله للبيت أمنه، وصان حرمته؛ وكان من حوله كما قال الله فيهم: {أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم}.
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة- عن طريق القوافل- إلى اليمن في الجنوب، وإلى الشام في الشمال. وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين: أحداهما إلى اليمن في الشتاء، والثانية إلى الشام في الصيف.
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء؛ وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول، في أمان وسلام وطمأنينة. وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين، فصارتا لهم عادة وإلفا!
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها- بعد البعثة- كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين- وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله. ومنة أمنهم الخوف. سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله، أم في أسفارهموترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء.
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين..
يقول لهم: من أجل إيلاف قريش: رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة، وتنال من ورائها ما تنال {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع}.. وكان الأصل- بحسب حالة أرضهم- أن يجوعوا، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع {وآمنهم من خوف}.. وكان الأصل- بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم- أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف!
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس. ويثير الخجل في القلوب. وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها. وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده. وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة. إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته! لم يواجهه بصنم ولا وثن، ولم يقل له.. إن الآلهة ستحمي بيتها. إنما قال له: (أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه).. ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق، ولا يثوب إلى حق، ولا يرجع إلى معقول.
وهذه السورة تبدو امتدادا لسورة الفيل قبلها من ناحية موضوعها وجوها. وإن كانت سورة مستقلة مبدوءة بالبسملة، والروايات تذكر أنه يفصل بين نزول سورة الفيل وسورة قريش تسع سور. ولكن ترتيبهما في المصحف متواليتين يتفق مع موضوعهما القريب. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)}
اختلف في اللام في لإيلاف قريش، هل هي متعلقة بما قبلها، وعلى أي معنى. أم متعلقة بما بعدها، وعلى أي معنى.
فمن قال: متعلقة بما قبلها، قال متعلقة بجعل في قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [الفيل: 5].
وتكون بمعنى لأجل إيلاف قريش يدوم لهم ويبقى تعظيم العرب إياهم، لأنهم أهل حرم الله، أو بمعنى إلى أي جعلنا العدو كعصف مأكول، هزيمة له ونصرة لقريش نعمة عليهم، إلى نعمة إيلافهم رحلة الشتاء والصيف.
ومن قال: متعلقة بما بعدها، قال لإيلاف قريش إيلافهم الذي ألقوه أي بمثابة التقرير له، ورتب عليه، فليعبدوا رب هذا البيت. أي أثبته إليهم وحفظه لهم.
وهذا القول الأخير هو اختيار ابن جرير، ورواه ابن عباس، ورد جواز القول الأوّل، لأنه يلزمه فصل السورتين عن بعض.
وقيل: إنها للتعجب، أي أعجبوا لإيلاف قريش، حكاه القرطبي عن الكسائي والأخفش، والقول الأول لغيره.
وروي أيضًا عن ابن عباس وغيره، واستدلوا بقراءة السورتين معًا في الصلاة في ركعة قرأ بهما عمر بن الخطاب، وبأي السورتين في أٌبي بن كعب متصلتان، ولا فصل بينهما.
وحكى القرطبي القولين، ولم يرجح أحدهما، ولا يبعد اعتبار الوجهين لأنه لا يعارض بعضها بعضًا.
وما اعترض به ابن جرير بأنه يلزم عليه اتصال السورتين فليس بلازم، لأنه إن أراد اتصالهما في المعنى، فالقرآن كله متصلة سورة معنى.
ألا ترى إلى فاتحة الكتاب وفيها {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]، فجاءت سورة البقرة: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، وبعدها ذكر أوصافهم وقال: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5]، فأي أرتباط أقوى من هذا، كأنه يقول: الهدى الذي تطلبونه في هذا الكتاب فهو هدى للمتقين، وإن أراد اتصالًا حسًا بعدم البسملة، فنظيرها سورة براءة مع الأنفال، ولكن لا حاجة إلى ذلك، لأن إجماع القراء على إقبات البسملة بينهما، اللهم إلا مصحف أُبي بن كعب، وليس في هذين الوجهين وجه أرجح من وجه.
ولذا لم يرجع بينهما أحد من المفسرين، سوى ابن جرير رحمه الله:
وصحة الوجهين أقوى وأعم في الامتنان وتعداد النعم.
والإيلاف: قيل من التأليف، إذ كانوا في رحلتيهم يألفون الملوك في الشام واليمن، أو كانوا هم في أنفسهم مؤلفين ومجمعين، وهو امتنان عليهم بهذا التجمع والتألف، ولو سلط عليهم لفرقهم وشتتهم، وأنشدوا:
أبونا قصي كان يدعي مجمعًا ** به جمع الله القبائل من فهر

وقيل: من الألف والتعود، أي ألفوا الرحلتين.
فللإبقاء لهم على ما ألفوه وقريش قال أبو حيان: علم على القبلية.
وقيل: أصلها من النقرش، وهو الاجتماع أو التكسب والجمع.
وقيل: من دابة البحر المسماة بالقرش وهي أخطر حيواناته، وهو مروي عن ابن عباس في جوابه لمعاوية.
وأنشد في قول الشاعر:
وقريش هي التي تسكن الب ** يحر بها سميت قريش قريشا

تأكل الرث والسمين ولا تترك ** فيها لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حي قريش ** يأكلون البلاد أكلًا كميشا

ولهم آخر الزمان نبي ** يكثر القتل فيهم والخموشا

وقوله تعالى: {رِحْلَةَ الشتاء والصيف}، هو تفسير لإيلاف سواء على ما كانوا يؤالفون بين الملوك في تلك الرحلات، أو ما كانوا يألفونه فيهما.
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}
المراد بالبيت: البيت الحرام، كما جاء في دعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37].
وقوله تعالى: {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.
بمثابة التعليل لموجب أمرهم بالعبادة، لأنه سبحانه الذي هيأ لهم هاتين الرحلتين اللتين كانتا سببًا في تلك النعم عليهم، فكان من واجلهم أن يشكروه على نعمه ويعبدوه وحده.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المعنى، عند قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وساق النصوص بهذا المعنى بما أغنى عن إعادته.
تنبيه:
في قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}، ربط بين النعمة وموجبها، كالربط بين السبب والمسبب.
ففيه بيان لموجب عبادة الله تعالى وحده، وحقه في ذلك على عباده جميعًا، وليس خاصًا بقريش. وهذا الحق قرره أول لفظ في القرآن، وأول نداء في المصحف، فالأول قوله تعالى: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2]، كأنه يقول هو سبحانه مستحق للحمد، لأنه رب العالمين، أي خالفهم ورازقهم، وراحمهم إلى آخره.
والثاني: {يَا أَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
ثم بين الموجب بقوله: {الذي خلقكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تتقُونَ} [البقرة: 21].
ثم عدد عليهم نعمه بقوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ} [البقرة: 22].
فهذه النعم تعادل الإطعام من جوع، والأمن من خوف، في حق قريش، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} [الكوثر: 1-2].
وقد بين تعالى أن الشكر يزيد النعم والكفر يذهبها، إلا ما كان استدراجًا، فقال في شكر النعمة: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
وقال في الكفران وعواقبه: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفرادًا من خوف، نعمة عظمى لأن الإنسان لا ينعم ولا يسعد إلا بتحصيل النعمتين هاتين معًا، إذ لا عيش مع الجوع، ولا أمن مع الخوف، وتكمل النعمة باجتماعهما.
ولذا جاء الحديث: «من أصبح معافى بدنه آمنًا في سربه عنده قوت يومه، فقد اجتمعت عنده الدنيا بحذافيرها».
تنبيه آخر:
إن في هذه السورة دليلًا على أن دعوة الأنبياء مستجابة، لأن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لأهل الحرام بقوله: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات} [إبراهيم: 37].
وقال: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129]، فأطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف، وبعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليه آياته. اهـ.

.التفسير المأُثور:

قال السيوطي:
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)}
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت {لإِيلاف قريش} بمكة، وأخرج البخاري في تاريخه والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الخلافيات عن أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فضل الله قريشًا بسبع خصال لم يعطها أحدا قبلهم، ولا يعطيها أحدا بعدهم: إني فيهم وفي لفظ النبوّة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله سبع سنين، وفي لفظ عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم {لإِيلاف قريش}».
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن الزبير بن العوّام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل الله قريشًا بسبع خصال. فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش، وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأنه نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم وهي {لإِيلاف قريش} وفضلهم بأن فيهم النبوّة والخلافة والحجابة والسقاية».
وأخرج الخطيب في تاريخه عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله فضل قريشًا بسبع خصال: أنا منهم، وأن الله أنزل فيهم سورة كاملة من كتابه لم يذكر فيها أحدا غيرهم، وأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده أحد غيرهم، وأن الله نصرهم يوم الفيل، وأن الخلافة والسقاية والسدانة فيهم».
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن إبراهيم قال: صلى عمر بن الخطاب بالناس بمكة عند البيت فقرأ {لإِيلاف قريش} قال: {فليعبدوا رب هذا البيت} وجعل يومئ بأصبعه إلى الكعبة وهو في الصلاة.
وأخرج الفريابي وابن جرير والطبراني والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل أمكم يا قريش {لإِيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف}».
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «{لإِيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} ويحكم يا قريش اعبدوا {رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}».
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه كان يقرأ: {لإِيلاف قريش الفهم رحلة الشتاء والصيف}.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه كان يعيب {لإِيلاف قريش} ويقول انما هي لتألف قريش، وكانوا يرحلون في الشتاء والصيف إلى الروم والشام، فأمرهم الله أن يألفوا عبادة رب هذا البيت.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: {لإِيلاف قريش} قال: نعمتي على قريش {إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} قال: كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف {فليعبدوا رب هذا البيت} قال: الكعبة {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} قال: الجذام.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {لإِيلاف قريش} قال: نعمتي على قريش {إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} قال: إيلافهم ذلك فلا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف {وآمنهم من خوف} قال: من كل عدوّ في حرمهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {لإِيلاف قريش إيلافهم} يقول لزومهم {الذي أطعمهم من جوع} يعني قريشًا أهل مكة بدعوة إبراهيم حيث قال: {وارزقهم من الثمرات} [ابراهيم: 37] {وآمنهم من خوف} حيث قال ابراهيم: {رب اجعل هذا البلد آمنًا} [ابراهيم: 35].
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه سئل عن قوله: {لإِيلاف قريش} فقرأ {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} إلى آخر السورة.
قال: هذا لإِيلاف قريش صنعت هذا بهم لألفة قريش لئلا أفرق إلفهم وجماعتهم إنما جاء صاحب الفيل يستبيد حرمهم فصنع الله ذلك بهم.
وأخرج ابن الزبير بن بكار في الموفقيات عن عمر بن عبد العزيز قال: كانت قريش في الجاهلية تحتفد، وكان احتفادها أن أهل البيت منه كانوا إذا سافت يعني هلكت أموالهم خرجوا إلى براز من الأرض فضربوا على أنفسهم الأخبية ثم تناوبوا فيها حتى يموتوا من قبل أن يعلم بخلتهم، حتى نشأ هاشم بن عبد مناف، فلما نبل وعظم قدره في قومه قال: يا معشر قريش إن العز مع الكثرة، وقد أصبحتم أكثر العرب أموالًا وأعزهم نفرًا، وإن هذا الإِحتفاد قد أتى على كثير منكم، وقد رأيت رأيًا.
قالوا: رأيك راشد فمرنا نأتمر.
قال: رأيت أن أخلط فُقراءكم بأغنيائكم فأعمد إلى رجل غني فأضم إليه فقيرًا عياله بعدد عياله، فيكون يوازره في الرحلتين رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن، فما كان في مال الغني من فضل عاش الفقير وعياله في ظله، وكان ذلك قطعًا للاحتفاد قالوا: نعم، ما رأيت فألف بين الناس. فلما كان من أمر الفيل وأصحابه ما كان وأنزل الله ما أنزل وكان ذلك مفتاح النبوة وأول عز قريش حتى أهابهم الناس كلهم وقالوا أهل الله والله معهم، وكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العام، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان فيما أنزل الله عليه يعرف قومه وما صنع إليهم وما نصرهم من الفيل وأهله {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1] إلى آخر السورة ثم قال: ولم فعلت ذلك يا محمد بقومك وهم يومئذ أهل عبادة أوثان فقال لهم: {لإِيلاف قريش} إلى آخر السورة أي لتراحمهم وتواصلهم، وكانوا على شرك، وكان الذي آمنهم منه من الخوف خوف الفيل وأصحابه وإطعامهم إياهم من الجوع من جوع الاحتفاد.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {لإِيلاف قريش} الآية، قال: نهاهم عن الرحلة، وأمرهم أن يعبدوا رب هذا البيت، وكفاهم المؤنة، وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف، ولم يكن لهم راحة في شتاء ولا صيف، فأطعمهم الله بعد ذلك من جوع وآمنهم من خوف فألفوا الرحلة، وكان ذلك من نعمة الله عليهم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس {لإِيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} قال: ألفوا ذلك فلا يشق عليهم.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {لإِيلاف قريش} قال: عادة قريش رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف، وفي قوله: {وآمنهم من خوف} قال: كانوا يقولون: نحن من حرم الله فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية يأمنون بذلك، وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج أغير عليهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: {لإِيلاف قريش} قال: كان أهل مكة يتعاورون البيت شتاء وصيفًا تجارًا آمنين لا يخافون شيئًا لحرمهم، وكانت العرب لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعونه من الخوف، فذكرهم الله ما كانوا فيه من الأمن حتى إن كان الرجل منهم ليصاب في الحيّ من أحياء العرب فيقال حرمي.
قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أذل قريشًا أذله الله» وقال: «ارقبوني وقريشًا فإن ينصرني الله عليهم فالناس لهم تبع» فلما فتحت مكة أسرع الناس في الإِسلام فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الناس تبع لقريش في الخير والشر كفارهم تبع لكفارهم ومؤمنوهم تبع لمؤمنيهم».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {لإِيلاف قريش} الآية، قال: أمروا أن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر عن أبي صالح قال: علم الله حب قريش الشام فأمروا أن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإيلافهم رحلة الشتاء والصيف.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي مالك في قوله: {لإِيلاف قريش} قال: كانوا يتجرون في الشتاء والصيف فألفتهم ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كانت قريش تتجر شتاء وصيفًا فتأخذ في الشتاء على طريق البحر وإيلة إلى فلسطين يلتمسون الدفء وأما الصيف فيأخذون قبل بصرى وأذرعات يلتمسون البرد فذلك قوله: {إيلافهم}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كانت لهم رحلتان الصيف إلى الشام والشتاء إلى اليمن في التجارة.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {وآمنهم من خوف} قال: لا يخطفون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش {وآمنهم من خوف} قال: خوف الحبشة.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك {وآمنهم من خوف} قال: من الجذام.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي ريحانة العامري أن معاوية قال لابن عباس: لم سميت قريش قريشًا؟ قال: بدابة تكون في البحر أعظم دوابه يقال لها القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته.
قال: فأنشدني في ذلك شيئًا فأنشده شعر الجمحي إذ يقول:
وقريش هي التي تسكن البحر ** بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا تترك ** منها لذي الجناحين ريشا

هكذا في البلاد حي قريش ** يأكلون البلاد أكلًا كميشا

ولهم آخر الزمان نبي ** يكثر القتل فيهم والخموشا

وأخرج ابن سعد عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم أن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير متى سميت قريش قريشًا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش، فقال عبد الملك ما سمعت هذا، ولكن سمعت أن قصيًا كان يقال له القرشي ولم تسم قريش قبله.
وأخرج ابن سعد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: لما نزل قصيّ الحرم وغلب عليه فعل أفعالًا جميلة فقيل له القرشي، فهو أول من سمي به.
وأخرج أحمد عن قتادة بن النعمان أنه وقع بقريش فكأنه نال منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا قتادة لا تسبن قريشًا، فإنه لعلك أن ترى منهم رجالًا تزدري عملك مع أعمالهم وفعلك مع أفعالهم، وتغبطهم اذا رأيتهم لولا أن تطغى قريش لأخبرتهم بالذي لهم عند الله».
وأخرج ابن أبي شيبة عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الناس تبع لقريش في هذا الأمر خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام اذا فقهوا، والله لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لخيارها عند الله» قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير نسوة ركبن الإِبل صالح نساء قريش أرعاه على زوج في ذات يده وأحناه على ولد في صغره».
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والنسائي عن أنس قال: كنا في بيت رجل من الأنصار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف فأخذ بعضادتي الباب فقال: «الأئمة من قريش، ولهم عليكم حق، ولكم مثل ذلك ما إن استحكموا عدلوا وإن استرحموا رحموا وإذا عاهدوا أوفوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للقرشي مثلي قوة الرجل من غير قريش». قيل للزهري: ما عني بذلك؟ قال: نبل الرأي.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سهل بن أبي حثمة أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «تعلموا من قريش ولا تعلموها، وقدموا قريشًا ولا تؤخروها، فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش».
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا قريشًا فتضلوا، ولا تأخروا عنها فتضلوا، خيار قريش خيار الناس، وشرار قريش شرار الناس، والذي نفس محمد بيده لولا أن تبطر قريش لأخبرتها ما لها عند الله».
وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناس تبع لقريش في الخير والشر إلى يوم القيامة».
وأخرج ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن عبد الله بن رفاعة عن أبيه عن جده قال: «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا فقال: هل فيكم من غيركم؟ قالوا: لا إلا ابن أختنا ومولانا وحليفتنا، فقال: ابن أختكم منكم ومولاكم منكم إن قريشًا أهل صدق وأمانة فمن بغى لهم الغواء أكبه الله على وجهه».
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والناس تبع لقريش في هذا الأمر خيارهم تبع لخيارهم وشرارهم تبع لشرارهم».
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب فيه نفر من قريش فقال: «إن هذا الأمر في قريش».
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش: «إن هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته».
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» وحرك أصبعيه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة».
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبيد بن عمير قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش فقال: «اللهم كما أذقت أولهم عذابًا فأذق آخرهم نوالًا».
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعد بن أبي وقاص أن رجلًا قتل فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أبعده الله أنه كان يبغض قريشًا».
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم «أذقت أول قريش نكالًا فأذق آخرهم نوالًا». اهـ.